نهضة الفن ووظيفته

بقلم الفنان التشكيلي نشأت المدرس



الفن يعكس واقع الشعوب، ويطرح قضاياها، ويُظهِر إيجابياتها وسلبياتها، ويمكن من خلاله أن نقرأ المؤشرات الاقتصادية، والمواقف الملتزمة، والحركات الإنسانية، والتفاعل العام مع مستجدات الحياة؛ كما أنه يعكس لنا مدى تفاعل شعوب المنطقة وتأثرها بالأمم المجاورة .
والتاريخ هو أكبر مترجم لما أودُّ ذكره. ففي الماضي، حينما لم يكن الإنسان مقيدًا بحدود، كان ثمة منفذ أوسع للمعرفة وللثقافات الإنسانية وللمجالات الإبداعية – فهذا هو تيار الحضارة. وتمتلك الأمم والشعوب السالفة غنى زاخرًا، يضجُّ بكل أنواع المعارف وأشكال الثقافات التي مازلنا، إلى اليوم، ننهل من معينها الخصب.
أما المجتمعات التي أغلقت نوافذها على التيارات الفنية والإنسانية والحضارات الأخرى في عصرنا الحديث فنراها تتخبط بفنونها وإبداعاتها: فهي إما معتاشة على طحالب الماضي، وإما مقلدة في معظم الأحيان للتيارات الأخرى، مما يوقعها في شرك الاضمحلال والرتابة.
فالشعوب التي تبحث عن الارتقاء والتقدم لا بدَّ لها أن تبحث عن وفر من الحرية لمبدعيها، وتؤمن المزيد من الاهتمام بعلومها وفنونها، وتلغي كل الحواجز أمام علومها الإنسانية والإبداعية، لتضمن سلامة ارتقائها، وتدعم قواعد حاضرها، ولا تكتفي بالنظر إلى نبض الماضي الغابر لأنه، في نهاية المطاف، كل ما لا ينبع ينضب!
هذه الناحية الإيجابية ربما عرفها الغرب وقدَّرها واستفاد منها استفادة جيدة. وربما أدرك أبعادها في تسييس الشعوب والسيطرة عليها، فساهم، بشكل أو بآخر، بوضعنا ضمن طوق الانغلاق، مما تركنا في حالة من التراجع الفكري والإبداعي، وجعلنا منغلقين ضمن حدود ما يقدم لنا أو يفرض علينا. ونستطيع أن نعتبر أن أسوأ أنواع الأسْر يتمثل في وضع أفكار مبدعينا ضمن حدود وقوالب جاهزة تُقدَّم إلينا من خلال وجبات سريعة لا تفي بالغرض ولا تعطي، بأية حال من الأحوال، أيَّ دافع أو هدف أو وسيلة لاقتحام الطوق الإنساني نحو الأمام. ومردود هذا نراه اليوم بوضوح ونلمسه في حاضرنا العقيم الذي نرفض، حتى الآن، بشكل أو بآخر، أن نعترف بتردِّيه، ونبقى نحاول وندور في نفس الدائرة التي لا قدرة لنا على الخروج منها.
فهل يمكنك أن تضع أي إنسان لفترة زمنية طويلة في غرفة غير مضاءة، ثم تُخرِجُه إلى الضوء مباشرة، من دون أن تجد لديه كثيرًا من التشوهات البصرية؟!
إن الحصانة التي يجب على المجتمع والدولة أن يمنحاها للمبدع وللمثقف شيء ضروري، يساعده على التحرك في جميع الاتجاهات بحرية ودون عوائق، مما يحسِّن من أدائه ويمنحه قدرة الاختيار الأنسب لمصادره وروافد إبداعاته.
ولكي نحسِّن نوعية المنتَج الإبداعي لدى شعوب منطقتنا علينا أن نُحسِن التصنيف والتبويب والترتيب. فلا يمكنك أن تصنع من غابة بستانًا جميلاً منسقًا بدون أن تفرز، وترتِّب، وتسيِّج، وتروي، وفي بعض الأحيان تتلف ما ليس مفيدًا. وهنا تكمن الخصوصية في الإبداعات الفنية والثقافية التي تأخذ الطابع الإنساني لواجهة هذه الشعوب وإغناء مخزونها الحضاري الحديث.
وعلينا أن نأخذ في الحسبان دائمًا أن الأماكن والإمكانات خُلِقَت من أجل المبدعين، وليس العكس: فأعظم المسارح بُنِيَتْ لأجل الإلياذة والأوديسة، وليس العكس.
وها نحن على أبواب عصر حديث، مليء بالضخِّ الإعلامي. وهنا يجب على الإعلام أن يفهم دوره الحقيقي في ارتقاء المجتمعات، ويساهم في فرز ما يضخُّه من ثقافات وتيارات، وأن يكون سليم النوايا في توجُّهاته، لنستطيع، في نهاية المطاف، أن نحصل على مادة مصفَّاة من كل الشوائب والسموم التي يمكن أن تجهض وليد الوقت الصعب الذي هو الإنسان المبدع الفنان .